ماذا يقول العلم عن ممارسة التأمل Meditation و اليقظة الذهنية Mindfulness؟


 إن التأمل : " يبقي عقولنا وقلوبنا هادئة وسلمية ومُحِبة ، أي في المكان المناسب" ، وذلك على حد تعبير ممارس للتأمل. و يقول آخر، أنه من المفترض أن تمارس تقنيات التأمل meditation  أو اليقظة الذهنية  ( الوعي الآني ) mindfulness ، على الأقل من الناحية القصصية ، فهي طريقك نحو حياة أكثر سعادة وصحة. 

و في الواقع ، ينجذب إلى هذه الممارسات و التقنيات، معظم الأشخاص الذين يهتمون بالتأمل بفضل الفكرة الواسعة الانتشار حولها، والتي ستساعدهم على الشعور بالهدوء والبقاء أكثر توازناً، وأقل عرضةً لآثار الإجهاد اليومي.

والتأمل -بأي حال من الأحوال- هو ممارسة جديدة. وفي الواقع ، لقد كان موجوداً منذ مئات السنين ، إن لم يكن منذ آلاف السنين، وهو جزءٌ من الثقافات المتنوعة.

وفي الأصل ، كان للتأمل علاقات قوية مع الدين - ليس فقط في البوذية ، والتي عادة ما يربطها الناس بها - ولكن أيضاً بالممارسات المسيحية و الإسلامية.

 وفي الواقع ، هناك العديد من الناس -اليوم مع المعتقدات الدينية المختلفة- ترغب في دمج التأمل كممارسة روحية.

ومع ذلك ، وفي الغالب -وخاصة في الدول الغربية- ابتعد التأمل عن جذوره الروحية والتعبدية ، وقد أصبح -أكثر و أكثر- ممارسة مباشرة للصحة العقلية mental health والرفاه العام general well-being.

و هناك العديد من الأنواع ، بما في ذلك التأمل اللطيف المحب ، وتأمل اليقظة الذهنية  ، والتأمل التجاوزي transcendental meditation.

و تتميز اليقظة الذهنية mindfulness  بسلسلة من الممارسات التي تتضمن التركيز على التفاصيل الصغيرة في الوقت الحالي. و يكون الهدف من ذلك هو مساعدة الشخص على البقاء متجذراً في هنا والآن here and now وإلغاء مشاعر أو حالات مزاجية غير مرحب بها ، مثل نوبات القلق anxiety.

وغالباً ما يزعم الأشخاص الذين ينخرطون في تقنيات اليقظة الذهنية  ( الوعي الآني ) والتأمل أن هذه الممارسات تسمح لهم بتعزيز، أو الحفاظ على الجوانب المختلفة لرفاهيتهم. ولكن ما الذي وجدته الأبحاث حول آثار التأمل effects of meditation على العقل mind والجسم body ، وهل هناك أضرار محتملة مرتبطة بهذه الممارسات؟ 

في هذه المقال سنتحرى عن ذلك. و سنحاول الإجابة عن سؤال المقال المهم: ماذا يقول العلم عن هذه الممارسات؟ و سنحاول توضيح بعض الآثار أو الأضرار المحتملة لهذه التقنيات و الممارسات.

لقد تم التركيز من قبل العلماء في الفترة الأخيرة على دراسة تأثير ممارسة التأمل واليوجا على الفرد، ومن هنا تم وضع العديد من الدراسات التي تشرح فوائد ممارسة التأمل من خلال النقاط التالية:

تحسين قدرة الإنسان على التكيف مع عوامل الإجهاد و التوتر stress

إن أحد الأسباب الرئيسية التي يستشهد بها الأشخاص عند الادعاء بأن التأمل مفيد، هو أنه يسمح لهم بالتخلص من التوتر الذي يتراكم يومياً بسبب ضغوط العمل أو الأسرة.

فقد أكدت دراسة قام بها باحثون مرتبطون بمركز العافية والتحصيل في التعليم Center for Wellness and Achievement in Education في سان فرانسيسكو San Francisco ، كاليفورنيا ، العام الماضي ، أن الأشخاص الذين يمارسون التأمل التجاوزي أفادوا بأنهم يشعرون بأنهم أقل توتراً في العمل من أقرانهم الذين لم يتأملوا.

فأثناء التأمل التجاوزي ، عادةً ما يركز الشخص على تكرار مانترا - كلمة أو صوت أو عبارة خاصة - تهدف إلى مساعدة العقل على الاستقرار. ولكن لماذا سيكون للتأمل تأثير إيجابي على ردود أفعال أذهاننا وأجسادنا للتوتر؟

وقد كشفت دراسة سابقة ، نشرت في عام 2017 ، أن التأمل - إلى جانب تدخلات أخرى للعقل والجسم - يرتبط بمستويات منخفضة من الجزيء "العامل النووي kappa B" ، الذي يؤثر على تنظيم التعبير الجيني gene expression.

ويوضح الفريق الذي أجرى هذا البحث أن أجسامنا تنتج عادة هذا الجزيء استجابةً للتوتر وأن هذا بدوره ينشط سلسلة من الجزيئات تسمى "السيتوكينات" cytokines ، يكون بعضها مُعزِّز للالتهابات proinflammatory، والبعض الآخر مضاد للالتهابات anti-inflammatory.

ويساهم ارتفاع نشاط السيتوكين في العديد من مشاكل الصحة البدنية والعقلية ، بما في ذلك الالتهابات غير الطبيعية abnormal inflammation والسرطان cancer والاكتئاب depression.

وتؤكد الباحثة الرئيسية في الدراسة إيفانا بوريك Ivana Buric ، من جامعة كوفنتري Coventry University  في المملكة المتحدة United Kingdom : "أن الملايين من الناس حول العالم يتمتع -بالفعل- بالمزايا الصحية لتداخلات العقل والجسم لممارسات اليوغا أو التأمل ، ولكن ما قد لا يدركونه هو أن هذه الفوائد تبدأ على المستوى الجزيئي ويمكن أن تغير الطريقة التي يتبعها الكود الجيني الخاص بنا.".

إن اليقظة الذهنية  "مبشرةٌ -بحق- للحد من الألم والضيق"

فهناك أدلة أخرى ، تم الكشف عنها أيضاً في عام 2017 ، تشير إلى أن التأمل بالإضافة لليوغا- يشجع على مقاومة الإجهاد عن طريق زيادة مستويات عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ ، وهو بروتين يحمي صحة الخلايا العصبية ويساعد على تنظيم عمليات التمثيل الغذائي.

وبالمثل ، تُظهر الأبحاث الحديثة - التي نُشرت في مجلة الصحة العقلية المبنية على البراهين Evidence-Based Mental Health, a BMJ journal أن اليقظة الذهنية  ( الوعي الآني ) mindfulness تقارب فعالية العلاج السلوكي المعرفي (Cognitive behavioral therapy – CBT) في تخفيف أعراض الألم المزمن المرتبط بحالات مثل فيبروميالغيا fibromyalgia والتهاب المفاصل الروماتويدي rheumatoid arthritis والتهاب المفاصل osteoarthritis.

التأمل يساعد في تحسين ضبط النفس

يبدو أن التأمل و اليقظة الذهنية ، يحسنان ، ليس فقط قدرة الشخص على التكيف مع عوامل الإجهاد ، ولكن أيضاً على صحته العقلية بشكل عام.

فعلى سبيل المثال ، بحثت إحدى الدراسات في آثار اليقظة الذهنية  mindfulness على النساء اللائي عانين من الاكتئاب depression والقلقanxiety وتقلب المزاج mood swings بعد انقطاع الطمث.

وقد وجد الباحثون أن هذه الممارسة ساعدت المشاركين على تقليل آثار هذه الأعراض العاطفية والنفسية.

وفي هذا الخصوص تقول الدكتورة ريتشا سود Richa Sood ، المؤلفة الرئيسية للدراسة: "إن الهدف خلال اللحظات اليقِظة mindful moments ليس تفريغ العقل ، بل أن يصبح المرء مراقباً لنشاط العقل بينما يكون لطيفاً مع نفسه".

وتضيف "إن الخطوة الثانية ، هي إنشاء لحظة صمت. خذ نفساً عميقاً، ولاحظ مساحتك وأفكارك وعواطفك بدون أي حكم. و بالتالي فالهدوء الناتج يساعد في تقليل التوتر".

ويقول روبرت رايت Robert Wright، مؤلف ومحاضر زائر سابق في جامعة برينستون University of Princeton في نيوجيرسي New Jersey ، إن هناك سبباً واضحاً يفسر أن ممارسات اليقظة الذهنية  والتأمل تسمح للشخص بمكافحة القلق واضطرابات المزاج الأخرى.

ويضيف رايت Wright أن البشر قد تطوروا "للقيام بأشياء معينة ساعدت أجدادنا على إيصال جيناتهم إلى الأجيال التي تليهم - أشياء مثل الأكل وممارسة الجنس وكسب احترام الآخرين ، و التغلب على المنافسين ".

لذلك ، طورت أدمغتنا نظاماً للمكافآت  a reward system,، والذي يجعلنا نرغب بالبحث عن تجارب نجدها ممتعة - الأكل والشرب وممارسة الجنس.

سلاح ضد الإدمان

تهدف هذه الآلية - في حد ذاتها - إلى مساعدتنا ليس فقط على البقاء على قيد الحياة ولكن في النمو و الازدهار أيضاً. ومع ذلك ، يمكن أن يؤدي ذلك أيضاً إلى الإدمان addiction إذا ، على سبيل المثال ، "توقف" المخ في حلقة التغذية الراجعة غير المفيدة مع حافز ممتع.

وتشير الأبحاث إلى أن تقنيات التأمل واليقظة الذهنية،  يمكن أن تساعد الشخص على مقاومة تلك الدوافع غير المفيدة والحصول على مزيد من ضبط النفس. وهكذا ، وجدت دراسة من عام 2015 أن الأشخاص الذين يدخنون كانوا قادرين على الحد من التدخين بعد ممارسة تدريب اليقظة الذهنية  mindfulness.

وبالمثل ، أظهرت الأبحاث المنشورة في المجلة الدولية لعلم الأدوية العصبية the International Journal of Neuropsychopharmacology في عام 2017 ، أن الأشخاص الذين يبالغون -عادة- في شرب الخمر يستهلكون 9.3 وحدة أقل من الكحول ، أي ما يعادل حوالي 3 مكاييل من البيرة ، في الأسبوع الذي تلا تدريباً دقيقاً على اليقظة.

وتقول الأبحاث ، أن اليقظة الذهنية ( الوعي الآني )  تساعد الأشخاص الذين يريدون إنقاص الوزن. "الأكل الواعي Mindful eating" ، كما يطلق عليه ، و يتم تعليم الناس أن يدركوا دوافعهم المتعلقة بالأكل في الوقت الحالي وأن يدركوا حقاً إحساس كل لقمة و قضمة.

وقد أكدت دراسة أجريت في العام الماضي أن المشاركين الذين حضروا ثلاث أو أربع جلسات توعية تمكنوا من خسارة حوالي 6.6 رطل (3 كيلوجرامات) ، في المتوسط ، خلال ستة 6 أشهر ، في حين أن أقرانهم الذين حضروا جلسات أقل خسروا فقط حوالي رطلين 2 (0.9 كيلوجرام) ، في المتوسط.

يدعم التأمل دماغاً أكثرُ صحة 

تقول الدكتورة سانام حفيظ Sanam Hafeez ، وهي مختص نفسي مرخص ومقره في نيويورك لـموقع أخبار الصحة اليوم  Medical News today: "إن التأمل ، عندما يمارس بشكلٍ منتظمٍ ، يمكن أن يعيد توصيلات الطرق العصبية في الدماغ".

وقد أوضحت سانام أيضاً أن " الدراسات تشير إلى أن التأمل لمدة 20 دقيقة يومياً و لبضعة أسابيع كان بالفعل كافياً للبدء باختبار و لمس فوائده".

وفي الواقع ، وجدت العديد من الدراسات أن التأمل يمكن أن يساعد أيضاً في الحفاظ على صحة المخ والمرونة العصبية (قدرة خلايا الدماغ على تكوين روابط جديدة).

و الجدير بالذكر أنه في إحدى الدراسات ، تابع الباحثون 60 شخصاً ، ممن كانوا متأملين ذوي خبرة ، لمدة سبع 7 سنوات. وقد جد الباحثون أن المشاركين لم يروا فقط تحسناً في مقاومة الإجهاد ولكن وجدوا أيضاً تحسناً كبيراً في الانتباه. ويؤكد الباحثون أن هذه الفوائد استمرت لفترة طويلة ، ولم يعاني الأشخاص الذين يتأملون بشكل منتظم، من مشاكل الانتباه التي تأتي مع التقدم بالعمر.

كذلك وجدت الأبحاث المنشورة في عام 2017 ، في مجلة Mindfulness ، أن تأمل اليقظة الذهنية ، إلى جانب نوع من ممارسات اليوغا ، كان مرتبطاً بأداءٍ وظيفي أفضل، وكذلك بتحسن الحيوية و النشاط لدى الأشخاص المتأملين.

بالإضافة لما سبق فإن هذه الممارسات قد تقلل بالفعل من خطر الخَرَف dementia، وفقاً لدراسة من مجلة مرض ألزهايمر Journal of Alzheimer's Disease. حتى أن مؤلفتها الرئيسة ، الدكتورة هيلين لافريتسكي Helen Lavretsky ، ذهبت إلى حد القول بأن "الممارسة المنتظمة لليوغا والتأمل يمكن أن تكون حلاً بسيطاً وآمناً، ومنخفض التكلفة لتحسين لياقتك الدماغية brain fitness."

هل هناك أي آثار غير مرغوب فيها؟

ومع ذلك ، على الرغم من أن الكثير من الناس والكثير من الدراسات تشير إلى فوائد التأمل ، فإن بعض الأفراد يشعرون بعدم الرضا عن الممارسة ، قائلين إنه بدلاً من مساعدتهم على تحسين رفاههم ، فإنه يؤدي إلى مشاعر غير مرغوب فيها.

وفي هذا الخصوص، يفيد أحد الأشخاص غير الراضين بأن "التأمل يجعلني شديد الحساسية تجاه كل شيء - مثل الأصوات والحركات – ويجعلني مجهداً بشكلٍ مستمر!"

وهناك أبحاث تشير إلى أن هذه ليست حالات فريدة. ففي إحدى الدراسات ، التي ظهرت نتائجها في PLoS One ، قام الباحثون باستطلاع 342 شخصاً مارسوا اليقظة الذهنية والتأمل إما بدون اهتمام، أو بمفردهم، أو في أحد أماكن (معتكفات) التأمل.

وقد أشارت الدراسات الاستقصائية إلى أن 25% من المشاركين أبلغوا عن آثار غير مرغوب فيها بدرجات متفاوتة من الشدة. وشملت هذه أعراض القلق أو نوبات الهلع ، والألم الجسدي ، ونزع الشخصية ، وأعراض الاكتئاب ، والدوخة.

وقد لاحظ الباحثون أن معظم التأثيرات غير المرغوب فيها (41%) حدثت أثناء الممارسة الفردية وليس الجماعية. وذكروا أيضاً أن 17% من التأثيرات غير المرغوب فيها حدثت أثناء تأمل تركيز الانتباه attention meditation ، و أن  20%حدث عندما تأمل الشخص لمدة أطول من عشرين 20 دقيقة.

ووفقاً للباحثين فإن  حوالي 39% من هذه الآثار غير المرغوب فيها لم يدم طويلاً ولم تكن شديدة بما فيه الكفاية لتتطلب التدخل الطبي.

نتيجة لذلك ، يوصي الباحثون بأن يختار الأفراد المهتمون بهذه الأنواع من الممارسات مدربهم بعد إجراء أبحاث أساسية دقيقة.

علاوة على ذلك ، يقول الباحثون: إن المعالجين الذين يرغبون في دمج ممارسات اليقظة الذهنية mindfulness في ممارساتهم السريرية يجب عليهم - من أجل مزيد من الأمان - "الخضوع لتدريب لممارسة اليقظة الذهنية لمدة 3 سنوات على الأقل [...] قبل محاولة إدماج هذه الممارسة في سياق علاجي."

وبالنسبة للأفراد الذين حاولوا اليقظة الذهنية mindfulness أو التأمل meditation، لكنهم لم يرو أي نوع من التحسن ، فتنصح الدكتور حفيظ بالصبر. وكذلك، "كما هو الحال مع العديد من الأشياء التي نقوم بها لتحسين الحياة ، فإن النتائج ليست فورية دائماً".

أحدث أقدم

نموذج الاتصال